مقدمة :
لاشك أن الكثير قد عانا من الأنظمة الإستبدادية سواء في تاريخنا المليء بالإستبداد أو زمننا المعاصر الذي لا يختلف عن تاريخنا . ونجد أن الأساليب ما زالت على ما هي ، فنجد كثيراً اليوم مسألة تخوين الشخص واتهامه بأنه يملك أفكار يقصد بها تفريق الأمة ، ومسألة تكفيره ليست ببعيدة حتى يتم تصفيته بطريقة توهم الناس على انها أوامر الدين ، وفي الحقيقة ما هو إلّا رجل أراد الإصلاح في زمن الفساد بالتالي يشكل خطر على السلطة اذا ما أيقظ الناس من غفلتهم .
لماذا غيلان الدمشقي ؟
اخترت هذه الشخصية لانه مثل شخصيات كثيرة بيننا اليوم نحن بحاجة اليها ولكن التاريخ لم ينصفها ، واعني بالتحديد علماء التاريخ ، فقد استطاع بني أمية من طمس أي معارض فقد شوهوا صورته ، وقتلوه ودفنوا معه ظله ، فلم يصلنا من غيلان الدمشقي إلّا القليل .
هو غيلان بن يونس ويقال ابن مسلم أو أبو مروان مولى عثمان بن عفان (١) ولا يُعلم سنة ميلاده ، واُختلف في تاريخ وفاته فقيل انها بعد سنة ١٠٥ هـ في عهد هشام بن عبد الملك . اخذ غيلان مذهبه - ولنا في مذهبه وقفه - من الحسن بن محمد بن الحنيفة بن علي بن أبي طالب (٣)
اشتهر غيلان الدمشقي بالوعظ والخطابة ويروى عنه انه " دخل غيلان يوما على عمر بن عبد العزيز فرآه أصفر الوجه فقال له عمر يا أبا مروان ما لي أراك أصفر الوجه قال يا أمير المؤمنين أمراض وأحزان قال لتصدقني قال غيلان يا أمير المؤمنين ذقت حلو الدنيا فوجدته مرا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت له نهاري وكل ذلك حقير في جنب ثواب الله وعقابه فقال رجل ممن كان في المجلس ما سمعت بأبلغ من هذا الكلام ولا أنفع منه لسامعه فأنى أوتيت هذا العلم قال غيلان إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تركنا العمل بما علمنا ولو أننا عملنا بما علمنا لأورثنا سقما لا تقوم له أبداننا " (٤)
ومن كلام غيلان: " لا تكن كعلماء زمن الهرج إن وُعظوا انفوا، وإن وعظو عنفوا " (٥) فيتضح لنا الزمن الذي عاشه غيلان الدمشقي ، في زمن انتشر فيه علماء السلاطين ، الذين شرعنوا أي شيء يخدم السلاطين الظملة بأسم الدين .
" وله رسائل، قال ابن النديم إنها في نحو ألفي ورقة " (٦) لم تصلنا شيء منها ، فقد استطاع بنو أمية محو هذه الشخصية وكأنه لم يكن موجود قط ، فقد دفنوه بكل ما تحملها الكلمة من معنى .
مذهب غيلان الدمشقي :
يُنسب مذهب القدرية إليه فقد كان ثاني شخص يقول بالقدر بعد معبد الجهني البصري ، ويسميه بعض المؤرخين غيلان القدري نسبه الى القدرية ، والقدرية يرون " إن الباري تعالى حكيم عارف ، لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر ، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليهم ، فالعبد هو الفاعل للخير والشر ، والإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، وهو المجازى على فعله ، والرب تعالى اقدره على ذلك كله .. " (٧) ويستدلون على ذلك بآيات منها قوله : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " (٨)
وجاء هذا الفكر لمواجهة فكر آخر وهو الجبرية الذي روّج له بني أمية لشرعنه أفعالهم بالقول ان الافعال مخلوقة ومحتمة ومجبور على العبد ان يفعلها ، بالتالي لا يمكنك ان تعترض على ما فعل آبائنا او ما سنفعله بك فكله من عند الله ومكتوب في اللوح المحفوظ ولا تبديل له .
إن فكر الجبر اضعف المسلمين واصابهم باليأس فتركوا الحكام يفعلون ما يريدون وقد حمى هذا الفكر علماء السلاطين ، إلّا ان غيلان الدمشقي لم يرضى بهذا الحال وأخذ يدعوا بمذهبه مما شكل خطراً على بني أمية فخططوا على التخلص منه .
فلم يسلم غيلان الدمشقي من التكفير فجرأه بني أمية تتجاوز الكذب على رسول الله ، فقد شاعت احاديث مثل : " يكون في أمتي رجلان أحدهما وهب يهب الله له الحكمة والآخر غيلان فتنته على هذه الأمة أشد من فتنة الشيطان " (٩) و " يكون في أمتي رجل يقال له غيلان هو أضر على أمتي من إبليس " (١٠) وغيرها من الاحاديث التي نسبت الى الرسول بهتاناً وزوراً .
ثم بدأت مرحلة التخوين والتشكيك في دينه واخلاقه ، تارة بأنه قبطي وتارة اخرى انه اخذ العلم من كذاب وتاره انه رقاصاً ، وذلك في رُويّ ان " خالد بن اللجلاج يقول ويلك يا غيلان ألم تكن زفانا ويلك يا غيلان ألم تكن قبطيا وأسلمت ويلك يا غيلان ألم أجدك في شبيبتك وأنت ترامي النساء بالتفاح في شهر رمضان ثم صرت حارسا تخدم امرأة حارث الكذاب وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت من ذلك فصرت قدريا زنديقا " (١١)
وفاته :
بعد ان انتهت الطبخة التي اُعدت ، أمر الملك الأموي هشام بن عبد الملك باحضاره ، واتهمه بالخوض في مسألة القدر، ولكي يشرعن قتله احضر الاوزاعي ليناظره ، فعندما انتهت المناظرة افتى الاوزاعي بقتله ! منتهجاً بذلك منهج فرعون عندما قال : " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ " (١٢)
ان قصة المناظرة والتي ذكرها المؤرخون أي كانت لا تنسلك في ذهن عاقل ، ففي رواية يطلب غيلان الدمشقي ان اذا تغلب عليه أحد في المناظره تضرب عنقه وتظهره انه في موقف ضعيف الحجة ، أي كان فقد حصل هشام بن عبد الملك على ما يريد فصُلب على باب كيسان بدمشق وتم قطع يده " فمر به رجل والذباب على يده فقال له يا غيلان هذا قضاء وقدر قال كذبت لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدر " (١٣) وفي هذه الرواية يتضح لنا معنى القضاء والقدر الذي يروج له بني أمية وهو ما وقف غيلان الدمشقي منه .
بعد ذلك تم تعذيبه بقطع كلتا يديه ورجليه ، فما زال يخطب بالناس وهو مصلوب ، فخاف هشام بن عبد الملك ان يؤثر على الناس فأمر بقطع لسانه فتوفي بعدها رحمه الله عليه .
ويتضح لنا من تعذيب غيلان الدمشقي ان المسألة لم تكن خوف على الدين بل انها خوف من الكرسي فلا يوجد دين على وجه الأرض يقول بقطع يدي ورجل المخالف وصلبه !
ان الطريقة التي يسلكها هشام بن عبد الملك والاوزاعي هي نفس المسلك الذي يُسلك اليوم في مواجهة الطريق الذي سلكه غيلان الدمشقي ، ولعلك تجد اليوم ان التخوين والتشكيك في دين العباد واخلاقهم منتشر ، وفتاوى التكفير تصدر بالمجان ، وقضايا الاعابة غاصة في المحاكم ، فاحذر ان تكون كرجاء بن حيوة الذي قال يوم وفاة غيلان الدمشقي : " قتله أفضل من قتل ألفين من الروم " (١٤) فانك لا تعلم متى هو دورك .
هكذا ضحى غيلان الدمشقي بحياته في سبيل هذه الأمة التي ما زالت لا تتعلم من تاريخها .
----------------
١- تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٤٨ ص ١٨٦ بترتيب المكتبة الشاملة
٢- الأعلام للزركلي ج ٥ ص ١٢٤ بترتيب المكتبة الشاملة
٣- مسلمون ثوار للدكتور محمد عمارة ص ١٤١ دار الشروق
٤- مصدر سابق تاريخ دمشق لابن عساكر
٥- مصدر سابق الأعلام للزركلي
٦- مصدر سابق
٧ - الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٦٨ المكتبة التوفيقة
٨- سورة الإنسان الآية ٣
٩- مصدر سابق تاريخ دمشق لابن عساكر
١٠- مصدر سابق
١١- مصدر سابق
١٢- سورة غافر الآية ٢٦
١٣- مصدر سابق تاريخ دمشق لابن عساكر
١٤- لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ج ٤ ص ٤٢٤ بترتيب المكتبة الشاملة
غيلان الدمشقي .. ضحية الأنظمة الإستبدادية