في رواية ١٩٨٤ يتحدث جورج أورويل عن الوضع الذي سيشهده العالم في نفس هذا العام (١٩٨٤) محاولًا التنبأ بنظام عالمي يسيطر على الفرد والمجتمع متحكمًا بكافة تفاصيله اليومية، مسيطرً عليه يبث ما يريد من معلومات داخل رأسه، مقنعًا إياه أن هذه هي الحقيقة ولا غير سواها.
ومن بين الأدوات التي تؤدي هذه الوظيفة هي شاشات الرصد، وهي عبارة عن شاشة صغيرة مثبته في كل شارع وبيت وغرفة وفي مكان العمل والمؤسسات والمنشئات وفي المقاهي، باختصار أنها مثبته في كل مكان، وطريقة عملها هي رصد كل فعل يقوم به الشخص بل حتى بالإمكان أن ترصد شعوره الذي يختلجه وهمساته وحديثه مع نفسه وأحلامه أثناء نومه، وماذا ينوي أن يفعل، وبالإمكان أيضًا أن تحدد هذه الشاشات موقعة، ومتى عاد إلى البيت ومتى غادر من مكان عمله وماذا أكل وماذا شرب، بمعنى آخر أن الخصوصية منعدمة، فلا يمكن للفرد أن يعيش في جو ملئه الخصوصية وإنما كل شيء مكشوف للسلطات بغية التحكم في الفرد وتصفية أي فكر مخالف.
كذلك من وظائف شاشات الرصد بث البرامج والأخبار للأفراد بشكل تلقيني، ويكون ما يبث كتوجيهات للأفراد المراد عملها، إن شاشة الرصد بوجه آخر يمكن أن يكون الإعلام التلقيني ليس الحر الذي يقوم على مبدأ الرأي الأحادي.
تنبأ جوروج أورويل بكل هذه الأشياء رغم أنه توفي في عام ١٩٥٠ وقد يكون ما ذكره في كتابه مثير للغرابة لمن قرأه في ذلك الوقت، إلا أنه الآن بالإمكان أن نقول أن تنبأه به شيء من الصحة، فإذا ما تحدثنا عن وقتنا الحاضر فشاشات الرصد الآن موجودة في كل مكان ولكن لديها أسماء مختلفة وأشكال متنوعة ووظيفتها ربما تكون اسوء وأشد خطورة من التي ذكرها جورج أورويل.
إن شاشات الرصد كما ذكرنا سابقًا لديها وظيفتين: البث (الإعلام) والمراقبة (انعدام الخصوصية) وهذين الشيئين إذا ما تأملنا النظر فيهما نجد أن الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها اليوم تؤدي نفس الوظائف وربما أكثر من ذلك كالهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والحواسيب والكاميرات مرتبطة بذلك ومعتمدة على الإنترنت والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الإجتماعي. وسنأخذ أمثلة بسيطة على أن هذه الأجهزة قد قامت فعلًا بإعدام الخصوصية وجعل مستخدميها مكشوفين للكل.
بلغ عدد الأجهزة الذكية هذا العام ما يقارب ٥ مليار جهاز ذكي على أشكال مختلفة ومتنوعة وترتبط غالبية هذه الأجهزة بالانترنت، وتقوم بإدخال بياناتك فيها للتعرف عليك كالبصمة وتحديد الموقع وقائمة الأسماء وتطور الأمر إلى حساب دقات قلبك وعدد خطواتك، وتسجل رسائلك في سيرفرات خاصة، وليس هناك حاجة - عما قريب - من حمل بطاقتك الإئتمانية فهي الآن تتواجد في الهاتف.
ويصل الأمر إلى كاميرات المراقبة في الشوارع والرادارات ونظام دخول وخروج الموظفين بالبصمة إلى الكاميرات داخل الفنادق والمحلات التجارية.
واذا ما اخذنا مثال على شركة جوجل فقد نقل موقع نون بوست بعض الممارسات التي تنتهك الخصوصية مثل:
“الأمر الذي كان أكثر غرابة من تصريح رئيس جوجل في دافوس، كان الاختراع الذي طوره مجموعة من علماء هارفارد، وهو عبارة عن روبوت بحجم البعوضة يستطيع سرقة عينات من حمضك النووى دون أن تشعر به، حيث تقول أستاذة علوم الكمبيوتر مارجو سليتزر: "الخصوصية التي عرفناها في الماضي، أصبحت أمرا مستحيلا الآن".
ما تقصده سليتزر في الواقع، هو أننا لسنا بحاجة إلى روبوتات بحجم البعوض لتسرق عينات من أحماضنا النووية لنشعر بانتهاك خصوصيتنا، بل أن خصوصيتنا منتهكة بالفعل ومنذ فترة ليست بالقصيرة، ناهيك عما سيتم تطويره في المستقبل، مضيفة: "التقنيات الموجودة بالفعل الآن، مثل بطاقات الائتمان وشبكة الانترنت والرادارات على الطرق السريعة وكاميرات مراقبة الشوارع ومواقع التواصل الإجتماعي والبريد الالكتروني، كل ذلك يترك أثرا رقميا هائلا يمكن تتبعنا من خلاله”.
في عام 2007، قامت جوجل بتطوير تطبيق "Google street view" الذي يسمح لمستخدمه أن يتجول في الشوارع من خلال رؤية بانورامية توفرها له جوجل من خلال كاميرات موضوعة على سيارات تابعة لـ"جوجل"، والتي تتجول في الشوارع العامة والشوارع الشهيرة في مدن العالم المختلفة لتصوير هذه الرؤية.
ولكن تلك الصور جعلت من اختراق تفاصيل العديد من الأشخاص أمرا ممكنا، كتصوير أشخاص يخرجون من ملاهي للتعري، أو رجالا يخرجون من مكاتب تبيع كتبا للبالغين.”
وهذا باب طويل لا يتسع لهذا المقال من الأمثلة الكثيرة والعديدة.
أما شبكات التواصل الإجتماعي فإنها سهلت العملية فأصبح الأشخاص هم من يكشفون عن أنفسهم في هذه المواقع لكل أحد، فلم يعد الأمر صعبًا لتستخرج معلومات لشخص معين، فكل ما تفعله هو البحث عن اسم الشخص وعندها ستحصل على صورته ومكان اقامته وجهة عمله واصدقائه وعائلته وعمره ولونه المفضل وأي شيء آخر تريده، ماذا أكل لوجبة الغداء وماذا شرب في المساء، ومن رافق اليوم، ومتى عاد إلى البيت، بإختصار أصبح الأشخاص هم من يكشفون عن أنفسهم فاصبحت شاشات رصد القرن الواحد والعشرين ليست هي من تجبر الأشخاص بل الأشخاص هم يأتوها طائعين.
إن الوضع الذي يشهده زمننا المعاصر فاق ما تصوره جورج أورويل..
شاشات رصد القرن الواحد والعشرين