تحدثت سابقاً عن الفتوى الصادرة من مفتي السلطنة الشيخ الخليلي المتعلقة بدار الأوبرا وتحريم زيارتها , والتي تبعها ردود أفعال مختلفة من قبل الجمهور ما بين مؤيد ومعارض , وكان المقال السابق يذكر أدلة العلماء من يرون جواز الغناء , حتى لا يكون وهم " اجمع العلماء " متعلق في الأذهان .
ولكن الحديث هنا مرة أخرى مختلف عن سابقه ,
فيه أسلط الضوء على الحادثة الأخيرة والتي لا تخفى على احد حيث انتشرت وتم تداولها
في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي بسرعة رهيبة .
تتمثل الحادثة قيام احد أفراد فرقة الجاز الأمريكية وهو مسلم بتلاوة للقران الكريم أثناء العرض على مسامع الجمهور , كما ذكر في
بيان مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية .
هذه الحادثة اتبعها ردود أفعال مختلفة
ومتفاوتة قرأنا وسمعنا تنوع في المطالب بشان الحادثة , وعلى كل حال الاختلاف من
سمة البشر .
ما أريد الوصول إليه هو إعادة النظر حول
القضية مرة أخرى برويّة وتأني والتعامل مع الموضوع بنوع من الهدوء والحكمة , نفصّل
الموضوع ولا نأخذه بقالب واحد , نضع النقاط على الحروف , نحدد ما نتفق عليه وما
نختلف فيه , وننظر ان كان هناك ما يجمعنا تحت صعيد واحد , ونؤتي كل ذي حق حقه .
( الفعل )
" وفعلت فعلتك التي فعلت " الشعراء
\ 19
كما جاء في البيان لإدارة دار الأوبرا , أن
المغني قد " تلا " سورة الفاتحة , ولم يذكر إن كانت مصاحبة مع الموسيقى أم
لا , ونحسبه كذلك , على كل حال وفي كل الأحوال ما فعله هذا المغني أمر خاطئ , وخاطئ
جداً , فالقران الكريم كلام الله المقدس , لا يعلو عليه أي كلام أخر , لا شعراً
ولا نثراً " وما علمناه الشعر وما ينبغي له أن هو إلا ذكر وقران مبين "
فلا يجوز قياسه بأي كلام أخر .
والقران انزله الله للتدبر والتأمل وإعمال العقل
والعظة والذكرى , لذا ذكر في غير موضع في القران الكريم متحدثاً فيه عن القران
نفسه " أفلا يتدبرون القران " النساء \ 82 " أفلا يتدبرون القران أم
على قلوب أقفالها " محمد \ 24 وغيرها من الآيات كثير .
وللقران قدسية كذلك عند المسلمين فلا يجوز
روايته ولا قراءته في الخلاء , ويستحب الوضوء قبل قراءته واستقبال القبلة وغيرها
من الأعمال التي توضح أن هذا القران مقدس عند المسلمين , فما بالكم بالتغني
به !؟ ولم نسمع إلى الآن – والحمد لله – من يقول بأنه جائز وان صاحبه موسيقى وبعض
الطبل أو جيتار الكتروني !
فالعقلاء من المسلمين لا يرضون ذلك لقرئانهم أن
يصل إلى هذه الدرجة , كما إن تلاوة القران في مكان اعد للاغاني ليس له أي معنى ولا
هدف ولا حكمة .
ونخلص إلى ذلك أن الفعل في ذاته خاطئ يضر
بمشاعر المسلمين , وبه قد تقوم جريمة يعاقب عليها القانون .
( النية )
" ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن
ما تعمدت قلوبكم " الأحزاب \ 5
يقول نبي الرحمة : " إنما الأعمال
بالنيات " فكل عمل يقوم به الإنسان بإرادته تسبقه نية , وهو القصد والغاية من
هذا الفعل , إذا ما أتينا إلى هذه الحادثة والى هذا المغني فانا نجد أن نيته اقرب
ما تكون حسنة وليست سيئة وذلك لعدة أمور :
أولا : البيان الذي نشره مجلس إدارة دار الأوبرا
حيث ذكر انه يعتقد أن " قراءة القران في دولة إسلامية سيسعد الحضور " و
" لم تكن بدافع السخرية أو الاستهزاء وإنما التعبير عن حبه لكونه مسلم "
ثانياً : لا يتصور من يريد أن يستهزأ ويسخر
بمشاعر المسلمين أن يفعل فعلته بين يديهم وفي عقر دارهم وموطنهم , فكعادة
المستهزئين يختبئون خلف دولتهم باسم الحرية كقضية الرسام الدنماركي والفيلم الذي
يجسد النبي محمد .
ثالثاً : أن المغني مسلم كما وضح في البيان
ولكن قد يكون جاهلاً بكثير من أمور الدين وذلك نظراً لظروف بيئته , فهو أمريكي وقد
لا ينال قدر من المعلومات الدينية , وتختلف النظرة إلى الأمور في تلك الرقعة
الجغرافية .
فإذا كانت النية كذلك – ولا يمكننا بأي حال
شق صدره لإثبات عكس ذلك – فيعذر عن فعله بعد أن ارتكب الخطأ واقر به واعتذر , فكل ابن
ادم خطاء وخير الخطاءين التوابون , وبداية التوبة الندم , والاعتذار قرينة على
الندم , فإذا كان الله يعفو ويغفر عن عبادة , فما خطبنا نحن البشر !؟
( لكل فعل ردة فعل )
عند افتتاح دار الأوبرا كانت هناك معارضة لأسباب
مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية , وقد يكون السبب الأبرز هو السبب
الديني الذي فسر موجه الغبار التي حدثت عند افتتاح الدار بأنها غضب من الله , وما
عزز هذا التيار هو فتوى الشيخ الخليلي , وكان حال هذا التيار هو انتظار هفوة وها
قد وجدها !
لاشك أن كل مسلم في هذه الأرض غيور على دينه
وعلى ربه ورسوله وقرآنه , فكل ذلك مقدس عند المسلمين ولا مزايدة في هذا الأمر .
نتفق على هذا ثم بعدها نختلف في أسلوب معالجة
الخطأ , فيرى البعض أن الحل هو علو الصوت حتى يعلم الأخر إن للدين رجال لا يسمحون أن
يستهزأ به , وان الساكت عن الحق شيطان اخرس وان يجب علينا الشجب لنبين موقفنا ,
وان نعمل بقاعدة " اليوم غنى بالقران بكرة مو ؟ " .
بينما يرى الأخر إن علينا معالجة الخطأ
بالحكمة والموعظة الحسنة , وان هذا الدين دين تسامح نأخذ بيد من لا يعلم ونعلمه ,
ولا نثير ضجة حتى لا نوقظ الفتنة .
لما كان هذا التباين في المواقف , وجب أن
نعلم أن هذا شيء طبيعي أن يحصل فمن سنن الكون هو اختلاف البشر .
وان الأصل هو حرية الرأي والتعبير , وتنتهي
حريتك عندما تبدأ حريات الآخرين , وإذا مارست حريتك في التعبير وجب عليك أن تسمح
لمن يختلف معك في الرأي في التعبير عن رأيه , نتحاور ونسمع بعض لنتقارب ولا نقصي الأخر لنتباعد .
نختم :
في الآونة الأخيرة انتشرت رسالة تدعو إلى
التظاهر يوم الجمعة عند دار الأوبرا , وأقول : أن من يرى أن هذا هي الطريقة المثلى
لحل المشكلة وان اختلفنا معه في الأسلوب فله ذلك , على أن يكون سلمياً ويحمل رسالة
معينة , وليس من حق من يخالفهم تخوينهم والتشكيك في نواياهم ووصفهم بمثيري الفتن
وان لهم غايات مبطنة لا يحمد عاقبتها إذا ما ظهرت , فالتجمعات السلمية إحدى طرق
التعبير عن الرأي وعلينا أن نعتاد على ذلك .
ورغم رسالة الاعتذار التي قدمها مجلس دار الأوبرا
عليه أن يكون أكثر دقة في المرات المقبلة وان برر أن ذلك هو " دور ثانوي " فيجب عليهم معرفة تفاصيل ما ستقوم به أي فرقة ومنعهم من أي دور ثانوي إن
كان مثل هذا الدور !
دار الأوبرا مرة اخرى