الجمعة، 11 ديسمبر 2020

المقال العاشر: الكائن المفترس

 

بالأمس عندما عدت مرة أخرى إلى الكوخ الذي يقع بوسط الغابة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى بوسط الغابة، حيث لا توجد هناك خدمات فضلا عن كهرباء أو أي شيء، مجرد كوخ وسط الغابة، مفتوح الأبواب لكل من يريد أن يقيم فيه دون مقابل، عندما عدت إليه مرة أخرى في الليلة الماطرة، قلت لنفسي كم أنا محظوظ لأن أبات في هذه الليلة الماطرة في الكوخ بدلا من الخيمة.

وضعت حقيبة السرير (Sleeping bag) وتهيأت للنوم، وكعادتي، ولا أدري حتى هذه اللحظة إن كنت أفعل هذه العادة على سبيل الجد أو الهزل بأن أضع السكين "السامية" نسبة إلى شعوب السامي المتواجدة في الشمال بجانبي، فكرت لبرهة من الزمن: هل سأستخدم هذه السكين حقًا للحماية؟

ثم وضعت سؤالا آخرا: أحمي نفسي ممن؟

حقًا! كوخ بوسط الغابة، لا يوجد قفل للباب، في الظلام الدامس.

الذئب؟ لا اعتقد ذلك، لا يستطيع أن يفتح الباب، سيرطم رأسه في الباب حتى يمل.

دب جائع؟ لا الذئاب ولا الدببة تهاجم البشر بطبيعتها، ولكن افترضت أنه دب جائع واشتم رائحة بعض الطعام، حسنا.. الدب لا يعلم كيف يفتح الباب ولكن يعلم كيف سيحطمه!

إلى أن يحطمه سأحمل تلك السكين واستعد، وسأتهيأ للمعركة. حسنًا.. في أسوء الأحوال سيقتلني، أما إذا ازداد الأمر سوءًا فسوف يهشم عظامي، وسيجعلني مقعد طوال حياتي، ولكن على الأقل سوف أحصل على معركة متكافئة نوعا ما، لن أدعه يفوز بالمعركة بهذه السهولة، سوف أغرز تلك السكين في أي مكان استطيع أن اغرزها فيه، سأجعله يفوز بالمعركة ولكنه سيخرج منها ببعض الندبات.

لم يكن هذا ما يخيفني بتاتا، أبدا، كلا، لم يكن ذلك ما أخاف منه في ذلك الوقت، أبدا، ما كنت أخشاه أن يدخل إنسان وبيده بندقية!

السويد، ريتفيك (المخيم)

9/9/2018م

السبت، 25 يوليو 2020

تعمين مهنة المحاماة


سبق وأن غردت على منصة تويتر بعض التغريدات حول موضوع تعمين مهنة المحاماة، ولن أكرر موضوع التغريدات.
وباعتقادي أن القرار قد اُتخذ قبل كتابة هذا المقال، وإن ما اكتبه في هذه اللحظة هو عبارة عن ملاحظات عن شيوع عدة عبارات، عبارات أصبحت رائجة وترددها الألسن وتتناقلها، فليس الهدف من هذا المقال هو إثبات صحة رأي، أو تغليب رأي على الآخر.
العبارة الأولى: (مهنة المحاماة هي مهنة سيادية)
عبارة عظيمة، وربما لو سألت المتلقي العادي، المتلقي الذي وصفه أحمد شوقي بقوله: (يا له من ببغاء عقله في أذنيه) عن رأيه في العبارة، لارتعدت فرائصه، سيادية.. كلمة لها وزنها. ولكن إن سألت هذا الشخص: ما معنى مهنة سيادية؟ لأجاب: (آآه طالما.. عيد السؤال تاني) ببساطة.. لأن ليس لها معنى.
فمن صنفها أنها سيادية؟ ولماذا هي سيادية؟ هل لأهميتها؟ إذن هل الطب مهنة سيادية؟ أم هل ينبغي على من يمارس هذه المهنة أن يكون مواطنًا، وبالتالي سنقول أن موظف أو موظفة الاستقبال هي مهنة سيادية؟ في الحقيقة لا أعلم ما تعني مهنة سيادية، وما علاقة المهن بالسيادة.
سأتفق، وسأسلّم، أن مهنة المحاماة مهنة سيادية، في هذه الحالة أنتم مجبرون على الاتفاق معي أن القضاء أكثر سيادية من مهنة المحاماة، ولا اعتقد أن هناك أحدًا يجادل في هذا الشيء. فإذا طرحت هذا التساؤل وقلت: هل القضاء لدينا معمّن؟ هل هو معمّن في المرحلة الابتدائية؟ الاستئناف؟ أو العليا؟ الإجابة هي: لا.
وأتساءل لماذا نحن مهتمون بتعمين مهنة أقل سيادية من أخرى وهي القضاء!
أحيلكم إلى المرسوم السلطاني رقم 49/2020 الصادر بتاريخ 7 إبريل من هذا العام علّكم تجدون فيه الإجابة الوافية.
العبارة الثانية: (تعمين مهنة المحاماة مطلب وطني)
عبارة جميلة، رنّانة، ولو سألت المتلقي العادي عن هذه العبارة لقال: بلا شك وأنا اتفق معها؛ لأنها عبارة جميلة.
وإني أتساءل ما معنى مطلب وطني؟ ولماذا مطلب؟ وهل تعني أن علي أن أطالب بها فقط؟
تأملت هذه العبارة مليًا، فوجدت أحدًا تحدث عنها سابقًا، في رواية ثكنة رأسمالية، -المؤلف ليس مهم بالنسبة لنا- يقول محامي يدعى مالك أو كما يعرف بمالكس لصديقه المحامي الذي لا نعلم اسمه حتى الآن، يقول له: (انظر مثلا كيف يتعاملون مع فكرة توطين مهنة المحاماة، إنهم يخرجون علينا بخطابات ليل نهار يؤيدون فيها فكرة التوطين، ويزعمون أنهم يدعمون هذه الفكرة، وهذا زعم كاذب، هم يفعلون ذلك ليظهروا لنا بأنهم مهتمون بالمحامين وبمهنة المحاماة، مع أن لا أحد منهم طبّق سياسة التوطين، إذ أن من يؤيد فكرة التوطين لا يحتاج إلى قرار لكي يطبقه، بل سيقوم بتطبيقه من تلقاء نفسه)
هذه الرواية تدور أحداثها في زمان غير معلوم، وفي مكان غير معلوم كذلك، الطبعة الأولى كانت بعام 2018م، وأتمنى ألا يفهم هذا على أنه إعلان غير مدفوع للرواية، فليست لي علاقة مباشرة مع الكاتب.
لم أفكر بهذه الطريقة سابقًا، وهذا النص هو الذي أثار تساؤلاتي، فمن يؤيد التعمين لماذا لا يطبقه من تلقاء نفسه؟ هل هو بحاجة إلى قرار؟ أم بحاجة إلى سلطة؟ إذا كان هو مقتنع به ويؤيده لماذا هو بحاجة إلى قرار أو سلطة؟
دعونا إذن نجري تعديلا في العبارة: (تعمين مهنة المحاماة واجب وطني)
ما رأيكم؟ أم أن هذه العبارة ستدخلنا في متاهات؟
العبارة الثالثة: (تعمين مهنة المحاماة هو حق مؤجل -مع وقف التنفيذ-)
لأن هذا النص مذكور بقانون المحاماة الصادر بعام 1996م، وأنا أتساءل، منذ عام 1996م وحتى الآن أي بمرور 24 سنة لماذا ليس لدينا عدد كاف من المحامين؟ عدد زهيد.
اعتقد علينا أن نجد المشكلة ونشخصها تشخيصا صحيحًا، ومن ثم نبحث عن الحلول، لا أن نكون مع أو ضد قرار معين، فقد يطرح القارئ سؤالا ويقول: هل أنت مع التعمين أم مع التمديد؟
وفي الحقيقة هذه إشكالية عامة لدينا، إشكالية ثقافية وفكرية، فإن لم تكن معي، فأنت بالضرورة ضدي، والأشياء كما نراها إما أبيض أو أسود، خير أو شر، نور أو ظلام، فلا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار، كما يقول نزار قباني.
علينا ألا نكون مثل آدم أو إيف، يوناس أو مارثا، شكلوا حزبين، وكل حزب بما لديهم فرحون، علينا أن نستفيد من كلاوديا، التي بحثت عن المشكلة أولا قبل أن تجد حلًا لها، علينا أن نستفيد قليلًا من المسلسلات التي نقضي فيها أوقاتًا مطولة لمتابعتها!
من وجه نظري فإن التعمين من عدمه هي مسألة هامشية، وإن هناك مسألة أهم كان يفترض على المحامين إثارتها ومناقشتها، وهي قانون المحاماة وانعكاسه على الواقع.
إجابتي على السائل هي: أني ضد التعمين مع إبقاء الوضع على ما هو عليه، وضد التمديد مع إبقاء الوضع على ما هو عليه، فالمسألة ليست تعمين أو تمديد أو تطبيق القرار من عدمه، وإن كنت أريد أن أخوض في هذه المسألة فسأقول أن التمديد مع إبقاء الوضع على ما هو عليه هو أقل ضررا من التعمين مع إبقاء الوضع على ما هو عليه.
العبارة الرابعة التي لا يكاد أن تتحدث عن هذا الموضوع، إلا ويقوم شخص ليقول لك: (أثبت العماني كفاءته)
وأنا لا اعلم ما سبب ترديد هذه العبارة، تحدثت سابقًا عن عدد المحامين بالأرقام، والأرقام اصدق أنباء من الكتب -مع احترامنا لأبي تمام- لأجد ردودًا تقول أن العماني قد اثبت كفاءته، نعم بالتأكيد.. وأنا محامي عماني ولا اعتقد أني أقول خلاف ذلك. فلاحظت أن هذا الخطاب الشائع هو خطاب شعبوي عاطفي، ومتناقض؛ لأنه عاطفي.
هذا الخطاب قام بتصدير هذه الأفكار حتى لخريجي كليات القانون، فأصبح المتخرج من كليات القانون أو حتى المحامي تحت التمرين يدعم بقوة وبحماسة بكل طاقته هذا الرأي، لأن وكما قيل له أن بتعمين مهنة المحاماة سوف تتوفر الفرص الوظيفية وستحل جميع المشكلات.
وهنا أريد أن أتحدّث مع هذا الشاب الذي لديه هذه الطاقة ويريد أن يبدع، أقول له في المقام الأول بأني لا اقصد أن ارسم صورة سوداوية أو ظلامية عن المشهد، ولكن في تفسيري انطلق من منطلق اقتصادي، بمعنى عندما افسّر ما الذي يحدث، وكيف يحدث، وماذا سيحدث، فهو تفسير اقتصادي، وليس تفسير عاطفي أو أمنيات كما سأوضح لك.
دعني أحكي لك حكاية:
بعد أن يتخرج الشاب أو الشابة من كلية القانون يلتحق بمكتب المحاماة ويعمل لمدة سنتين كمحام تحت التمرين، وبعد أن ينتهي من فترة التمرين ويقيد كمحام ابتدائي تطرق رأسه فكرة فتح مكتب خاص به. وعندما يرى بأنه مستعد لهذه الخطوة يقوم بفتح مكتبه الخاص.
أول شخص سيوظفه هذا المحامي الشاب هو محام وافد.. عليا أو استئناف لسببين، لسبب اقتصادي؛ حيث لا يمكنه أن يجد محام عماني عليا يريد أن يعمل معه كعامل –هذا إن وجد لقلتهم- كما أن أجره مرتفع بأضعاف أجر المحامي الوافد، ولسبب فني؛ حتى يغطي مرحلة الاستئناف والعليا، وهو يغطي المرحلة الابتدائية المعمنة تمامًا.
بعد أن يكثر العمل فإن ثاني موظف يوظفه هو محام تحت التمرين؛ لسبب اقتصادي كذلك، وعندما يزيد العمل يوظف محام تحت التمرين آخر، وعندما سيزيد العمل سيوظف محام تحت التمرين كذلك، ومحام تحت التمرين الأول الذي عينه هذا المحامي أصبح محاميًا ابتدائيا، وطرقت برأسه فكرة فتح مكتب خاص به.. وهكذا دواليك.
ماذا سيحدث إن تم تعمين مهنة المحاماة؟
بعد أن يتخرج الشاب أو الشابة من كلية القانون يلتحق بمكتب المحاماة ويعمل لمدة سنتين كمحام تحت التمرين، وبعد أن ينتهي من فترة التمرين ويقيد كمحام ابتدائي ستطرق رأسه فكرة فتح مكتب خاص به، ولكنه سيتراجع،  وستجهض الفكرة بفتح مكتب، لأن الوضع أصبح مختلفًا لسبب اقتصادي وفني كما ذكرت سابقًا، ولن يتمكن من تحقيق أول خطوة كما في المثال السابق، ولذات الأسباب.
لن يفتح هذا الشاب وهذه الشابة مكتبًا كما كان يحدث في السابق، ستدور العجلة ببطء وسيكون التوظيف بطيئا.
ذكرت في أحد التغريدات أن المحامي الوافد لا ينافس المتخرجين على الوظيفة، فالمرحلة الابتدائية معمنة بالكامل، ولكي ينافس المحامي الوافد المحامي العماني فعلى الأخير أن يعمل لمدة سبع سنوات.
هذه الفكرة يبدو أن الكثير لم يكن منتبه لها، أو أنهم لم يعطوها حقها في الانتباه، ولكنهم انتبهوا لها وقالوا أن الوضع سيتغير، فعادة محامي الاستئناف يحضر الابتدائي، ومحامي تحت التمرين يحضر الابتدائي، والابتدائي يحضر الابتدائي، فسيحضر الاستئناف في الاستئناف، وسيحضر تحت التمرين هنا، والابتدائي هناك، وهذا سيذهب هنا، وذاك سوف يذهب هناك...
أمنيات.. مجرد أمنيات لا يوجد رد..
لا يمكن أن تجبر شخص على آلية وطريقة العمل ومن يغطي ماذا، لا يمكن بأي حال من الأحوال.. هذه مجرد أمنيات.
سابقا تم زف بشارة، هذه البشارة تقول أن بعد تطبيق قرار التعمين سوف يتم غلق مائة مكتب يدار من قبل محامين وافدين، مائة مكتب، لابد لهذه المكاتب أن تعيّن على الأقل محاميًا عمانيًا واحدًا ليغطي المرحلة الابتدائية المعمنة كليًا.
لو افترضنا أن هناك محاميًا عمانيًا واحدًا في كل مكتب، فهذا يعني بعد تطبيق القرار أن هناك مائة محاميًا عمانيًا سوف يفقدون وظيفتهم -على الأقل- ولا أعلم لماذا اعتبر البعض أن هذه بشارة سارة، وأنا أراها كارثة، فماذا سيكون مصير هؤلاء المحامين؟ وهل هناك عدد كاف من المكاتب سوف يتم فتحها؟
من الأشياء اللطيفة التي تثار الآن، والتي يمكن أن نصنفها من ضمن العبارات الشائعة، أنه بعد قرار التقاعد سيقوم المتقاعدون من المجال القانوني بفتح مكاتب المحاماة.
إنا لله وانا إليه راجعون، أحسن الله عزاءكم في التحليل، كان طيبًا وودودًا، واستفدنا منه كثيرًا، وسامح الله من كان السبب!
من الذي أخذ عهدًا منهم أنهم سيقومون بفتح مكاتب للمحاماة؟
هذه الفكرة تظهر لنا أن صاحبها كالغريق الذي يتمسك بالقشة كي لا يغرق. مجرد أمنيات..
وعلى ذكر الأمنيات اعتقد بأنه علينا أن نكون حذرين في أمنياتنا. هناك أغنية لـ Metallica  تدعى  King of Nothing يقول فيها:  Careful what you wish you may regret it

 في الختام أتمنى أن تعتبروا أن هذا المقال عبارة عن حوار وتساؤلات، وليس جدلًا بيزنطيًا أيهم أولا الدجاجة أم البيضة، تشارلوت أو اليزابيث. واغفروا لي زلاتي واستطرادي المتكرر..










الثلاثاء، 19 مايو 2020

إني أرى في المنام أني أذبحك


إني أرى في المنام أني أذبحك
المقدمة:
تعلمنا وسمعنا منذ أن كنّا صغارًا قصة ابتلاء النبي إبراهيم عندما أمره الله بذبح ابنه، وكيف لهما أن انساقا لرغبة الله، ونفّذا ما أمرهما طوعًا، وقد اجتازا الاختبار بسهولة، فأجزاهم الله خير الجزاء.
كانت القصة سهلة، وبسيطة، وجميع التساؤلات التي نتساءلها يُجاب عليها بإجابات معلبّة وحتمية، إجابات لا يطرقها الشك، ومغلّفة بالقدسية والعصمة الإلهية، فنريح ونستريح من هذه التساؤلات.
بدأ اهتمامي بهذه الملحمة العظيمة عند قراءتي لكتاب (الخوف والرعشة) لسورن كيركجورد، ونيّة الكاتب كما جاء في كتابه: (ما أنويه الآن هو أن استخلص من قصة إبراهيم على شكل مشكلات الملامح الديالكتيكية التي تكمن في قصة إبراهيم، لكي أرى مفارقة الإيمان المدهشة، المفارقة التي تجعل جريمة قتل فعلًا مقدسًا وعملًا يسعد الله، مفارقة تعيد إسحاق إلى أبيه، والتي لا يمكن لأي فكر أن يفهمها، لأن الإيمان يبدأ بالضبط حيثما يكف التفكير) (1)
وقد طرح كيركجورد ثلاث مشكلات، وهي مشكلات أثارها هيجل في قصة إبراهيم (2) وهي:
1- تعطيل الغائي للأخلاقي.
2- الواجب المطلق تجاه الله
3- المسوغ الأخلاقي لإبراهيم في إخفاء هدفه عن زوجته سارة، اليعازر، وعن إسحاق.
ليس المهم في هذا المقال عرض آراء كيركجورد أو هيجل، بقدر ما نريد أن نسجل ملاحظة، وهي أن هذه المشكلات هي مشكلات حقيقية سنواجهها نحن كذلك، إذا ما اعتمدنا على القصة التي تعلمناها في المدارس، وسمعناها في المنابر، ولكن هذه المشكلات لن نواجهها إذا ما عدنا إلى القرآن، وقرأنا القصة لا للتسلية، وإنما لأخذ العبرة والعظة.

القصة الواردة في سفر التكوين الإصحاح الثاني والعشرون:
1 وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا».
2 فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ».
3 فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ.
4 وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ،
5 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا».
6 فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا.
7 وَكَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: «يَا أَبِي!». فَقَالَ: «هأَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟»
8 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا.
9 فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ.
10 ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ.
11 فَنَادَاهُ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا»
12 فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي».
13 فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ.
ويلاحظ من القصة الواردة في سفر التكوين المشكلات التي ناقشها كيركجورد، وهي أمر الله الصريح لإبراهيم، وامتثال إبراهيم للأوامر دون مناقشة بل سلّم بها تسليمًا مطلقًا، وإخفاء إبراهيم نيته بذبح ابنه ولم يستشره في الموضوع.

القصة الواردة في القرآن الكريم بسورة الصافات:
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿100﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103﴾ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿108﴾

الفرق بين القصة الواردة في سفر التكوين والقرآن الكريم:
لعلّ أبرز أوجه الاختلاف في القصتين:
1- في سفر التكوين كان الأمر الإلهي واضحًا «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». بينما جاء في القرآن الكريم أن النبي إبراهيم رأى رؤيا في منامه (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)
2- في سفر التكوين صُرّح بأن الابن هو إسحاق (خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ) بينما لم يبين في القرآن الكريم من هو الابن (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)
3- في سفر التكوين لم يستشر إبراهيم إسحاق، وإنما شرع في الذبح (ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ.) بينما في القرآن الكريم استشار إبراهيم ابنه، ودار بينهما حوارًا: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾  
4- في سفر التكوين تم الفداء بكبش (فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ) بينما في القرآن الكريم ذكر أنه ذبح عظيم (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)
إن "المشكلات" التي ناقشها كيركجورد غير منطبقة على القصة التي جاءت في القرآن الكريم، ولكنها حتمًا ستكون مشكلات قائمة إذا ما اعتمدنا القصة من مصادر أخرى كما وردت في كتب التفاسير –كما سنوضح- أو الذي تعلمناه في المدرسة أو ما سمعناه على المنابر.

النبي إسماعيل أم النبي إسحاق:
يكاد لا يخلو كتاب من كتب التفاسير من التعرض لهذا الجدل القائم حتى يومنا هذا، فمن هو الذبيح، إسماعيل أم  إسحاق؟ وقد اختلف المفسرون منذ القدم وذهبوا إلى ثلاثة مذاهب رئيسة: (أ) الذبيح هو إسحاق (ب) الذبيح هو إسماعيل (ج) التوقف.
يقول فخر الدين الرازي: (اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو؟ فقيل إنه إسحاق وهذا قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم، وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي) (3)
وفي الحقيقة، غير مهم لدينا من هو ابن إبراهيم في القصة أو الذبيح، ولا نود في هذا المقال تغليب رأي على رأي آخر، ولكن ما يهمنا في هذا الباب:
أولًا أن نبيّن في أن الاختلاف فيمن هو الذبيح هو خلاف قديم، بل إن الرأي الغالب هو الرأي الذي يقول أنه إسحاق، ولا يعني أن من يقول أنه إسحاق فهو مطبّع، كما وصم أحد القائلين المعاصرين بهذا الرأي!
ثانيًا، أن نحرر هذا الخلاف ومنشأه من زاوية أخرى، ولماذا تمسك بعض المفسرين بالقول إنه إسحاق، ولماذا تمسك الطرف الآخر على أنه إسماعيل. أما رأينا فهو التوقف كما قال الزجّاج: (الله أعلم) ونقول كما قال الله في القرآن: ابنه، والله أعلم من كان، ولا يهم من كان، فلو كان الأمر مهمًا لذكره الله، ولكنه لم يذكره ليلفت انتباهنا إلى ما هو أهم، بدلًا من الخلاف الذي نشب بين المفسرين الذي لم يخرج منه بنتيجة، فإن كان إسحاق لم يتغيّر شيء، وكذلك إن كان إسماعيل.
في البدء كان الأغلبية من المفسرين وحتى عوام الناس يقولون ويعتقدون أن الذبيح هو إسحاق، فكما يقول السمرقندي: (والظاهر عند العامة هو إسحاق) (4)
ولا توجد آية صريحة تقول أن الذبيح هو إسحاق، وإنما الإشارات في القرآن الكريم قد تحتمل إسحاق أو إسماعيل، ولكن يتضح فيمن قال أن الذبيح هو إسحاق قد تأثر تأثرًا شديدًا بالإسرائيليات، والتي حشوها حشوًا في كتب تفسيرهم، بل إن بعض الروايات جاءت لتتوافق مع سفر التكوين، لتتصدر روايات كعب الأحبار المشهد، وجميعها روايات ركيكة لا يُستند عليها، ولسنا بحاجة إلى حرف واحد منها بتعبير ابن كثير الذي قال في حق الروايات الواردة في هذه القصة: (وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده) (5)
ومع قدوم الدولة الأموية، وتصاعد النعرة القومية العربية –إن صح التعبير- بدأ القول أن الذبيح هو إسماعيل (أبو العرب) ولإعلاء شأنه قالوا أنه هو الذبيح، وأصبحت المسألة مسألة تفاخر بالأنساب، ونسبوا إلى الرسول أحاديث لا تصح عنه معارضة بذلك القرآن الكريم الذي يقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات/13)
وما يدل على ذلك فيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية: (عن الصنابحي، قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين; فضحك عليه الصلاة والسلام ; فقلنا له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم، نذر لله لئن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، وإسماعيل الثاني) (6)
وفي رواية أخرى تدل أن المسألة أصبحت تفاخر بالأنساب: (عن محمد بن كعب القرظي، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما هو; ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فأسلم فحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فقال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، فالله أعلم أيهما كان، كل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لربه.) (7)

القصة في القرآن الكريم:
نود في هذا المقال أن نقرأ قصة النبي إبراهيم مع ابنه من القرآن الكريم، دون الركون إلى الكم الهائل من الإسرائيليات التي أدخلت فيها، وفي البداية نود أن نشير إلى نقطتين:
أ- أن مصدر القصص القرآني هو القرآن وحده، وأن القصص للعبرة والعظة، وذلك لقول الله عزّ وجل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف/3) وقوله عزّ وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/111)
ب- أن الأنبياء بشر، وذلك لقوله عز وجل: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم/11) وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) (الكهف/110) وقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) (الإسراء/93)

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ):
عندما كاد قوم إبراهيم به، اعتزلهم، وقرر أن يهاجر إلى ربه؛ ليهديه. وبعد اعتزاله لقومه، شعر بالوحدة، فلم تكن له ذرّيه، كما بلغ من الكبر عتيًا، فدعا ربه على الكبر أن يرزقه من يؤنّس وحشته، وأن يكون من الصالحين، فسمعه ربه، واستجاب لدعائه، فحمده إبراهيم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم/93) فأحبّ إبراهيم ابنه، الذي بشّره الله به، فلا توجد أعظم بشارة من بشارة الله.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ):
كبر الابن، وترعرع في كنف أبيه، وسعى معه مشيًا، وسعى معه في العبادة، وأصبح عاقلًا تقوم عليه الحجة (8) بل وأصبح تام العقل، يفكّر، ويرجّح، ويميّز.

(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)
رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه، وقد تكررت هذه الرؤيا لأكثر من مرة، ولهذا قال: (أرى) (9) ولم تكن رؤيا  لمرة واحد كما قال يوسف لأبيه (رأيت): (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف/4).
لقد عاش إبراهيم مع قومه الذين عبدوا الأصنام، ويقدمون لها القرابين البشرية، لقد شاهد إبراهيم ذلك منذ صغره، وإن أنكره؛ فقد ظلّ معلقًا في عقله الباطن.
يقول عبد الكريم يونس الخطيب: (قيل إن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقى هذه البشرى من ربه، رأى أن يكون شكره لله، على هذا الإحسان، وهذا اللطف، بالمبادرة بالاستجابة لما طلب- رأى أن يكون شكره لله أن يقدم هذا الولد قربانا لله.. وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، في المبالغة في التقرب إلى الله) (10)
وما يهم هي العبارة الأخيرة: (وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، في المبالغة في التقرب إلى الله)، أما عمّا "قيل" في البشارة فلا دليل عليه ومستبعد، فكيف يشكر إبراهيم ربه بهذه الطريقة، وهو من قام بالدعاء له بأن يهب له من الصالحين؟
ويقول محمد شحرور: (إن تقديم القرابين البشرية للآلهة قبل عهد إبراهيم كان ظاهرة شائعة في العديد من بقاع العالم، وفي أغلب الهياكل والمعابد (...) وعندما اهتدى إبراهيم للذي فطر السموات والأرض حنيفًا (...) احتار ماذا يفعل ليقترب من هذا الإله (...) ظلت فكرة تقديم القربان تدور في رأس إبراهيم حتى سيطرت عليه، وبدأ يرى في المنام أنه يذبح ابنه) (11)
ونختلف مع رأي محمد شحرور في أن إبراهيم قد احتار، وأنه كان يفكر بوعيه بتقديم ابنه كقربان، والصحيح أنه لم يفكر في تقديم القربان بوعي منه، وإنما كانت الفكرة في عقله الباطن؛ ولهذا تكررت الرؤيا  في منامه.

(فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
وبعكس ما ورد في سفر التكوين، فإن إبراهيم وبعد تكرر الرؤيا  تشاور مع ابنه، واخبره عن الرؤيا  التي تكررت، وقال له: (فانظر ماذا ترى) ليستشيره، ولم يكن كما قال بعض المفسرين من أنه ليكتشف عزم ابنه، بل لأن إبراهيم كان مترددًا، ومتشككًا؛ فقد كان ذلك هو منهجه عند رؤيته للكوكب والشمس والقمر، وعندما طلب من الله أن يريه كيف يحي الموتى (12) ليأتي الرد من ابنه، (يا أبت افعل ما تؤمر) لا ما تراه في منامك.
وينقل عبد الكريم القشيري قول متسق مع الآية: («يا أبت افعل ما تؤمر» : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكون لها تأويل، فإن كان هذا أمرا فافعل بمقتضاه، وإن كان لها تأويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كل وقت ولكن لا يمكنك تلافيه.) (13)
وقد قال أغلب المفسرين أن الرؤيا  كانت وحيًا، ولكن هذا القول يناقض القرآن من عدة أوجه: (14)
(أ) لو كانت وحيًا لما تردد إبراهيم، ولقام بالفعل من أول رؤيا  مناميّة.
(ب) لو كانت وحيًا لما استشار إبراهيم ابنه.
(ج) لو كانت وحيًا لما قال ابنه (يا أبت افعل ما تؤمر) ولقال ما رأيت أو ما أوحي إليك.
(د) لا يتصوّر من أن الله يأمر نبي بأن يقتل ابنه، والله عزّ وجل يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/90)
(ه) لا يتصوّر أن يأمر الله بما ينكره (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) (الأنعام/137) (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/140)

ولأن أغلب المفسرين تصوّروا أن رؤيا إبراهيم المناميّة كانت وحيًا، ووقعوا في التناقضات، حاولوا التبرير بجعل إبراهيم كالآلة دون مشاعر، فما إن جاءه "الوحي" حتى همّ لينفّذ، وما كان حواره مع ابنه إلا ليرى عزمه، لقد نزعوا من إبراهيم بشريته بمجرد تصورهم أن الرؤيا كانت وحيًا وأمرًا إلهيًا، متجاهلين أنه كان قبل كل شيء إنسانًا، يشعر بما يشعره الأب تجاه ابنه، كما شعر من قبله نوح تجاه فيمن ربّاه، فقد أمره الله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (هود/37)  فقال نوح بعد مخالفة أوامر الله: (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود/46)

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ:
استقر إبراهيم وابنه على رأي واحد، بعد أن دار بينهم نقاش، وهذا مدلول الآية بكلمة (فلما)، وبدأ إبراهيم بمقدمه الذبح، فتله للجبين. وليس صحيح ما ورد في كتب التفاسير من الإسرائيليات من أنه باشر فعل الذبح، كأن ذبحه فظهرت صفيحه من النحاس بحلقه، أو أن السكين انقلبت، أو طعنه فمالت السكين، فكل هذه الأقوال لا سند لها من القرآن، ولم يشر القرآن أنه باشر في الذبح.
يقول القرطبي بعد سرد هذه الروايات: (وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل وإبراهيم صلوات الله عليهما، وكان أولى بالبيان من الفداء) (15)

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ:
تدخلت حينئذ العناية الإلهية، لتوقف إبراهيم عن فعله ولتصرفه عنها، وليبدل شكّه باليقين، لتبين له أنها مجرد رؤيا صدقها إبراهيم، ولم تكن وحيًا أو أمرًا إلهيًا، ولا يُعلم كيفية تدخل هذه العناية الإلهية؛ فهي من الغيب ولم يشر القرآن إليها. وتتدخل العناية الإلهية عند الأنبياء أحيانًا لتصرف عنهم السوء والفحشاء كما جاء في حق يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/24).

إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ:
والبلاء المتسق مع سياق الآية هي النعمة، أي النعمة البيّنة، فقد أنعم الله على إبراهيم بأن أوقفه من ذبح ابنه، ولينهي عصر تقديم القربان البشرية.
يقول الماوردي في تفسير البلاء: (الثاني: النعمة البينة, قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة: (وإن بلاءهم ما قد علمتم ... على الأيام إن نفع البلاء)) (16)

وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ:
لا يهم ما هو الذبح، أكبش كان أم وعل، كما ذهب المفسرين، فالمهم في القصة أنه تم استبدال تقديم القرابين البشرية بالبدن، وتكون صدقات للمحتاجين، فالله غني عنها: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ) (الحج/37).
وقد ترك الله هذه النعمة العظيمة للآخرين من بعد إبراهيم، لينتهي عصر تقديم القرابين البشرية.
ينقل الزمخشري عن ابن عباس: (لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم) (17).
ويقول محمد شحرور: (ما وضعه من منع القرابين البشرية واستبدالها سيبقى ساري المفعول إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وليس محصورًا بعصر إبراهيم، بل سيشمل ما بعده من عصور متأخرة) (18)

الخاتمة:
ورّط المفسرون أنفسهم عندما أخذوا بالإسرائيليات في قصة إبراهيم، ودخلوا في متاهات عندما اعتبروا أن الله أوحى إليه وأمره، وأخذوا القصة من سفر التكوين ليواجهوا المشكلات التي واجهها كيركجورد. بينما جاءت القصة مغايرة في القرآن الكريم، وليلفت الله انتباهنا إلى النعمة التي تركها لنا إبراهيم، وهي إنهاء عصر تقديم القربان البشرية.
من الأخطاء التي يقع فيها البعض هي محاكمة الناس في عصور غابرة بقوانينهم الأخلاقية المعاصرة، فيحاول أن يطعن في إبراهيم ويتهمه بجريمة الشروع في القتل، متناسيًا أن الأخلاق والقوانين في ذلك الزمان مختلفة، وأن الناس في ذلك الزمان كانوا يقدموا أبناءهم قرابين لآلهتهم، ويعتبر هذا الفعل أمر أخلاقي بالنسبة إليهم، ولو عاش هو بينهم لما تردد بتقديم أحب أبناءه كقربان ليتقرب به لإلهه. ولولا إبراهيم لساد تقديم القرابين البشرية لفترة طويلة من الزمن.
إن القوانين والأخلاق التي نشهدها اليوم هي نتاج تراكمات الجهود البشرية، وقد كان الأنبياء أحد المساهمين في هذه الجهود، فالنبي قبل أن يكون نبيًا هو مناضل ومصلح وثائر، سعى جاهدًا لإصلاح قوانين وأخلاق قومه.
لا ينبغي محاكمة السابقين بقوانيننا وأخلاقنا المعاصرة دون فهم والإحاطة بظروفهم وقوانينهم وأخلاقهم، وإن كان الحال كذلك، فسيأتي يوم يقرأ الناس تاريخنا وسيصفونا بالمجرمين المتخلفين الذي كانوا يشنقوا الناس ويسجنونهم أو يجرّموا الإجهاض والقتل الرحيم!

______________
1- سورن كيرككورد، الخوف والرعشة، ص 76
2- لم أتمكن من الاطلاع على كلام هيجل، وهو غير مهم على كل حال في المقال.
3- فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب، ج26، ص346 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
4- أبو الليث السمرقندي، بحر العلوم، ج3، ص147 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
5- ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج7، ص28. بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
6- الطبري، جامع البيان، ج21، ص85 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
7- المرجع السابق
8- الشوكاني، فتح القدير، ج4، ص463 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة. وقول الحسن هو الأقرب للصواب.
9- انظر: أحمد النوفلي، أقانيم اللامعقول، الحلقة الثانية، ص 116. ومحمد شحرور، القصص القرآني، الجزء الثاني، ص 111.
10- عبد الكريم يونس الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج12، ص5 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
11- محمد شحرور، مرجع سابق، ص109.
12- روي عن النبي محمد: (نحن أحق بالشك من إبراهيم).
13- عبد الكريم القشيري، لطائف الإشارات، ج3، 238 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
14- ذكر الرازي في تفسيره أقوال من احتج على أن الرؤيا وحي، مرجع سابق،  ص346.
15- شمس الدين القرطبي، تفسير القرطبي، ج15، ص102 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
16- الماوردي، النطت والعيون، ج5، ص62 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
17- الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج4، ص55 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
18- محمد شحرور، مرجع سابق، ص113.

الجمعة، 14 فبراير 2020

الزواج بغير ولي


الزواج بغير ولي:

في الآونة الأخيرة تم تداول حكم صادر من إحدى المحاكم العمانية على شبكات التواصل الاجتماعي قد قضى برفض دعوى المدعية التي اقامت دعواها تطالب فيها بإثبات زواجها بالمدعى عليه كونهما كانا يدرسان بالولايات المتحدة الأمريكية، واتفقا على الزواج وتم عقد قرانهما بالمركز الإسلامي على يد أحد المختصين بعقد الزواج، وقد دخل عليها المدعى عليها وعاشرها معاشرة الأزواج بعد العقد، وعند عودتها إلى عمان أرادت توثيق عقد الزواج إلا أن المدعى عليه رفض ذلك وهي حامل منه، وقد تدخّل والد المدعية في الدعوى وطلب القضاء ببطلان عقد الزواج لأنه غير موافق عليه، فحكمت المحكمة برفض دعوى المدعية وببطلان عقد الزواج. وقد أسست المحكمة حكمها على أن زواج المدعية وقع بدون إذن وليها ورضاه، فلا تملك المرأة نكاح نفسها بحسب ما ذهب إليه جمهور الأمة واعتمده قانون الأحوال الشخصية.
وما نود بيانه في هذا المقال إزالة اللبس الذي وقع فيه البعض حين اعتبر أن المرأة قد وقعت في الحرام بما أن الحكم حكم ببطلان عقد الزواج، كما نود بيان أنه إذا كان العقد باطلًا قانونًا بحسب قانون الأحوال الشخصية فلا يعني أنه مخالف للدين أو للشريعة الإسلامية، وقد أحسن الحكم عندما ذكر شرط موافقة الولي أنه رأي "الجمهور" والذي اعتمده قانون الأحوال الشخصية. فقد يكون عقد الزواج باطلًا في عمان ولكنه عقد صحيح في الولايات المتحدة الأمريكية –أو أي دولة أخرى- والذي كما يظهر أنه أخذ برأي "الأقلية" لاسيما وأن عقد الزواج قد تم عقده في مركز إسلامي كما ورد في الحكم.
للزواج وفقًا لقانون الأحوال الشخصية أربعة أركان: 1- الإيجاب والقبول. 2- الولي. 3- الصداق. 4- البينة. كما نصت عليه المادة (16) من القانون.
والمطالع لقانون الأحوال الشخصية يلاحظ أنه اعتمد على مواده على آراء مختلفة من الفقه ولم يكتفي على مذهب واحد، فاشتراط في الزواج على موافقة وإذن الولي هو رأي أكثر الفقهاء ولكنه ليس رأي مجمع عليه بل مختلف فيه.
يذكر الماوردي في كتابه الحاوي الكبير على أن الفقهاء قد اختلفوا على ستة مذاهب حول القول في اشتراط الولي في عقد النكاح (فإن أرادت المرأة أن تنفرد بالعقد على نفسها من غير ولي، فقد اختلف الفقهاء فيه على ستة مذاهب. مذهب الشافعي منهاأن الولي شرط في نكاحها لا يصح العقد إلا به وليس لها أن تنفرد بالعقد على نفسها، وإن أذن لها وليها سواء كانت صغيرة أو كبيرة، شريفة أو دنية، بكرا أو ثيبا. وبه قال من الصحابة عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم .ومن التابعينالحسن، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وشريح، والنخعي، ومن الفقهاءالأوزاعي، والثوري، ابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفةإن لم يكن عليها في مالها ولاية لبلوغها وعقلها لم يكن عليها في نكاحها ولاية، وجاز أن تنفرد بالعقد على نفسها وترده إلى من شاءت من رجل أو امرأة ولا اعتراض عليها من الوالي إلا أن تضع نفسها في غير كفء، وإن كان عليها في مالها ولاية لجنون أو صغر لم تنكح نفسها إلا بولي.
قال مالكإن كانت ذات شرف أو جمال أو مال صح نكاحها بغير ولي.
وقال داودإن كانت بكرا لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت ثيبا صح بغير ولي.
وقال أبو ثورإن أذن لها وليها جاز أن تعقد على نفسها، وإن لم يأذن لها لم يجز.
وقال أبو يوسفتأذن لمن شاءت من الرجال في تزويجها دون النساء ويكون موقوفا على إجازة وليها.( (1)
وجاز القول أن هناك ثلاثة آراء رئيسة: الرأي الأول من يشترط موافقة الولي، والرأي الثاني من يشترط موافقة الولي في ظروف معينة، والرأي الثالث من لا يشترط موافقة الولي.

الأدلة من القرأن الكريم:

استدل القائلون باشتراط موافقة ولي المرأة على الآيات القرآنية منها: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) (البقرة/232)
واستدل الشافعي على هذه الآية أنه يشترط موافقة الولي (لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من له سبب إلى العضل بأن يكون يتم به نكاحها من الأولياء والزوج إذا طلقها فانقضت عدتها فليس بسبيل منها فيعضلها وإن لم تنقض عدتها فقد يحرم عليها أن تنكح غيره وهو لا يعضلها عن نفسه وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقا وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف) (2)
وقد أجاب السرخسي على استدلال الشافعي على الآية أن المقصود في الآية: (المراد بالعضل المنع حبسا بأن يحبسها في بيت ويمنعها من أن تتزوج، وهذا خطاب للأزواج فإنه قال في أول الآية: (وإذا طلقتم النساء) وبه نقول: أن من طلق امرأته وانقضت عدتها فليس له أن يمنعها من التزوج بزوج آخر) (3)
وهو قول سديد لاسيما أن المخاطب في الآيات من الآية 226 من سورة البقرة هم الأزواج في حالة العزم على الطلاق، وفي الآية 232 من سورة البقرة تكون آخر مرحلة من الطلاق وهي بلوغ الأجل أي انقضاء العدة، فلا سبيل هنا للحديث عن الولي.
أما القائلون بعدم اشتؤاط موافقة الولي للمرأة فقد استدلوا بالآية: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) (البقرة/234) فقال أبو حنيفة: (فنسب النكاح إليهن ورفع الاعتراض عنهن) (4) كما استدلوا بالآيات (حتى تنكح زوجا غيره) (البقرة/230) ولقوله تعالى (أن ينكحن أزواجهن) (البقرة/232) (أضاف العقد إليهن في هذه الآيات فدل أنها تملك المباشرة) (5)

الأدلة من الروايات المنسوبة إلى الني محمد:

وقد تعمدت من ذكر هذا التوصيف؛ كون الفقهاء شككوا في الروايات التي يستدل بها الطرف الآخر سندًا ومتنًا، وهي رويات كثيرة نذكر أبرزها.
لعل من أبرز الروايات التي استدل عليها القائلون باشتراط موافقة ولي المرأة هي ما رواه الشافعي عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا -أو قال: اختلفوا- فالسلطان ولي من لا ولي له.)
واعترض القائلون بعدم اشتراط موافقة الولي للمرأة بالاستدلال على هذه الرواية من ناحية السند والمتن: (أحدها: أن قالوا: مدار هذا الحديث على رواية الزهري وقد روى ابن علية عن ابن جريج أنه قال لقيت الزهري فسألته عنه قال: لا أعرفه. (...) والثاني أن قالوا: هذا الحديث لا يصح عن عائشة فقد رويتموه عنها، لأنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وكان غائبا بالشام، فلما قدم قال: أمثلي يقتات عليه في بناته فأمضى النكاح. وقيل إن ما روته من الحديث أثبت عند أصحاب الحديث، مما روي عنها من نكاح ابنة أخيها. (...) والثالث أن قالوا: هو محمول على من عليها من النساء ولاية بصغر أو رق وتلك لا يجوز نكاحها إلا بولي، وقد روي في الخبر: أن امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، فاقتضى صريح هذه الرواية حملها على الأمة، ودليل تلك آكد وأن حمله على الصغيرة وخرجت الحرة الكبيرة في الروايتين (...)) (6)
وقد استدل القائلون بعدم اشتراط موافقة ولي المرأة على روايات منها: (قوله -صلى الله عليه وسلم- : (الأيم أحق بنفسها من وليها) والأيم: اسم لامرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، وهذا هو الصحيح عند أهل اللغة، وهو اختيار الكرخي -رحمه الله تعالى- قال: الأيم من النساء كالأعزب من الرجال (...) وقال -صلى الله عليه وسلم-:(ليس للولي مع الثيب أمر)، وحديث الخنساء حيث (قالت: بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من أمور بناتهم شيء) (ولما خطب رسول الله أم سلمة -رضي الله عنها- اعتذرت بأعذار من جملتها أن أولياءها غيب فقال: -صلى الله عليه وسلم- ليس في أوليائك من لا يرضى بي قم يا عمر فزوج أمك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاطب به عمر بن أبي سلمة وكان ابن سبع سنين) وعن عمر وعلي وابن عمر -رضي الله تعالى عنهم- جواز النكاح بغير ولي، وأن عائشة -رضي الله تعالى عنها- زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير، وهو غائب فلما رجع قال: أومثلي يفتات عليه في بناته، فقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: أوترغب عن المنذر؟ والله لتملكنه أمرها) (7)
وعلى أية حال لا يمكن التعويل على الروايات المنسوبة إلى النبي -والتي كما رأينا أنها متضاربة- للخروج بشيء قطعي، فكل رواية تناقض الرواية الأخرى، وكل فريق يشكك في الرواية المقابلة سندًا ومتنًا. (8)

الأدلة العقلية:

ونقصد بالأدلة العقلية كما هو سائد عند الأصوليون أي مصدر آخر من مصادر التشريع التي وضعها الأصوليون غير القرآن والسنة.
أما القائلون باشتراط موافقة ولي المرأة فإنهم قالوا (أن المرأة إنما منعت الاستقلال بالنكاح، لقصور عقلها، فلا يؤمن انخداعها ووقوعه منها على وجه المفسدة، وهذا مأمون فيما إذا أذن فيه وليها (...) والعلة في منعها، صيانتها عن مباشرة ما يشعر بوقاحتها ورعونتها وميلها إلى الرجال، وذلك ينافي حال أهل الصيانة والمروءة، والله أعلم.) (9)
أما القائلون بعدم اشتراط موافقة ولي المرأة فقالوا: (أن كل من جاز له التصرف في ماله جاز له التصرف في نكاحه كالرجل طردا والصغير عكسا، ولأنه عقد يجوز أن يتصرف فيه الرجل فجاز أن تتصرف فيه المرأة كالبيع، ولأنه عقد على منفعة فجاز أن تتولاه المرأة كالإجارة، ولأن لما جاز تصرفها في المهر وهو بدل من العقد جاز تصرفها في العقد.) (10)
والمتأمل في الرأين يرى أن الرأي الأول قد بنى رأيه لدفع مضره قد تتحقق، وهو كما يُعرف في أصول الفقه بالمصالح المرسلة، والمصالح المرسلة بشكل عام تخضع لظروف زمانية ومكانية معينة وتتغير أحكامها بتغير الزمان والمكان، كما أن الفقهاء غالوا في استخدامها في سبيل دفع المضرة. أما الرأي الثاني قد بنى رأيه على القياس والمعروف في أصول الفقه على انه الحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في العلة، ولو أن للقياس مآخذ إلا أن أغلب الأصوليون عدوه المصدر الرابع من مصادر التشريع، وهو في هذه المسألة أقوى حجة من الرأي الأول.

الخلاصة:

بعد عرض أدلة القائلين باشتراط موافقة ولي المرأة والقائلين بعدمه في الزواج، نرى أن الرأي الراجح هو عدم اشتراط موافقة ولي المرأة، ذلك أنه لم يرد في القرآن الكريم من وجوب هذا الشرط، وإن الآية التي استدل بها القائلون بلزوم هذا الشرط غير صريحة وقد اخرجت من سياقها، وعلى العكس من ذلك نرى أن الآيات التي استدل بها القائلون بعدم لزوم الشرط تدل أن للمرأة أن تزوج نفسها دون ولي. كما أن الروايات قد جاءت متناقضة ولم يصح منها شيء.
أما عن القول أن سبب اشتراط الولي هو لصيانه المرأة عن مباشرة ما يشعر بوقاحتها ورعونتها وميلها إلى الرجال، وذلك ينافي حال أهل الصيانة والمروءة، فهو استدلال قد يكون في محله إذا اعدناه إلى زمانه ومكانه، كما أنه افتراض يفترض فيه أسوء الأحوال وهو افتراض ظرفي، وكما أسلفنا أنه قد يتبدل الحال من زمان ومكان. بل بإمكانما القول أن سبب الخلاف الذي وقع فيه الفقهاء حول هذه المسألة، وأن القول باشتراط موافقة الولي هو رأي الجمهور، يعود إلى العادات والتقاليد في ذلك الزمان والمكان، فقد كانت القبائل في ذلك الوقت تهتم بأمور كالنسب والمهر وأن الأولياء يتفاخرون بكمال مهر المرأة ويعيرون بنقصان مهرها، ولتجنب ذلك كان لابد أن تكون لهم الكلمة، ولقد فطن لذلك السرخسي فقال: (وإذا أكرهت المرأة الولي على أن يزوجها بأقل من مهر مثلها فزوجها ثم زال الإكراه فرضيت المرأة، وأبى الولي أن يرضى فليس له ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن المهر من خالص حقها فإنه بدل ما هو مملوك لها ألا ترى أن الاستيفاء والإبراء إليها والتصرف فيه كيف شاءت، وتصرفها فيما هو خالص حقها صحيح فلا يكون للأولياء حق الاعتراض وأبو حنيفة -رحمه الله تعالى- يقول: إنها ألحقت الضرر بالأولياء فيكون لهم حق الاعتراض كما لو زوجت نفسها من غير كفء، وبيان ذلك أن الأولياء يتفاخرون بكمال مهرها ويعيرون بنقصان مهرها فإن ذلك مهر المومسات الزانيات عادة وفيه يقول القائل:
وما علي أن تكون جاريه ... تمشط رأسي وتكون فاليه
حتى ما إذا بلغت ثمانيه ... زوجتها مروان أو معاويه
أختان صدق ومهور غاليه
ومع لحوق العار بالأولياء فيه إلحاق الضرر بنساء العشيرة أيضا فإن من تزوج منهن بعد هذا بغير مهر فإنما يقدر مهرها بمهر هذه فعرفنا أن في ذلك ضررا عليهن، وإنما يذب عن نساء العشيرة رجالها فكان لهم حق الاعتراض فأما بعد تسمية الصداق كاملا صار حق العشيرة مستوفى، وبقاء المهر يخلص لها فإن شاءت استوفت وإن شاءت أبرأت) (11)

  ________________________
(1) الماوردي، كتاب الحاوي الكبير، ج 9، ص 38
(2) الشافعي، الأم، ج 5، ص 13
(3) السرخسي، المبسوط، ج 5 ، ص 12
(4) الماوردي، مرجع سابق ص 38
(5) السرخسي، مرجع سابق، ص 12
(6) الماوردي، مرجع سابق، ص 39
(7) السرخسي، مرجع سابق، ص 12
(8) للمزيد انظر، بدر الدين العين، البناية شرح الهداية، ج5، ص71
(9) أبي قدامة، المغني، ج7، ص 8
(10) الماوردي، مرجع سابق، ص 39
(11) السرخسي، مرجع سابق، ج 5، ص 14