السبت، 16 سبتمبر 2017

الحديث مع الطبيعة

لقد وجد اللحظة المناسبة ليقوم برحلته الخاصة، فبعد أن كشفت الشمس عن نفسها بعد أن كانت مختبئة خلف ستار الغيوم، انطلق إلى رحلته التي أراد أن يبحث فيها عن شيء لا يدري في حقيقته ما هو، لقد كان متيقن أنه يستطيع أن يصل إلى ما يريد من خلال الطبيعة، فمن خلال كلامه إلى الطبيعة سيصل إلى غايته.

  • "لا اعتقد أن داروين كان يدري ما ينتظره وهو في سفينة البيجل"

قال هذه الكلمات بعد أن التفت إلى خلفه ورأى أن البيت الذي يقطنه قد توارى عن الأنظار، كانت الغابة التي يسير فيها تبعد ثلاثة عشر خطوة من مقر سكناه، لم تكن هذه المرة الأولى التي يمشي فيها وسط الغابة، ولكنها المرة الأولى التي يقرر فيها أن يخاطب الطبيعة وحيدًا، لقد أتاها طائعًا.

  • "أو كشخص يبحث عن الله"




حيث إنه لم يكن متأكد مما يريد، كل ما يريده فقط هو المضي قدمًا وينظر حينها إلى أين سيستقر، لقد سمح لعقله أن يسبح في ملكوت الطبيعة كما أسماه، وأن لا يوجهه إلى مكان معين ويعطيه الحرية المطلقة، كان يحاول أن يصل إلى تلك المرحلة عبر التفكير في اللاشيء، حتى خطى أقدامه لم يكن يفكر فيها ولا في الاتجاه الذي سيسلكه، لم يكن يفكر فضلًا عن اتخاذ قرارات، كان يسير كالسائر أثناء نومه.
كانت أشعة الشمس تخترق المساحات الخالية من جذوع الأشجار العالية وتضيء مساحات صغيرة، ومن هذه المساحات المضاءة كانت تنمو الحزازيات على مساحة واسعة منها، توقف عندها وأطال النظر في الحزازيات.



  • "ليس بعد، لم تأتي اللحظة المناسبة للحديث مع الطبيعة بعد"

أكمل السير ولقد كان محبط بعض الشيء، كان يرجو ألا تخذله الطبيعة وتتجاهله وترفض الحديث معه. كان يبتعد عن أي شيء يدل على وجود إنسان في ذلك المكان، كان يريد أن يقابل الطبيعة وحيدًا، ولقد استطاع الوصول إلى المكان الذي كان يقصده، الطبيعة وحدها ولا وجود لأي أثر أن إنسان قد مر من هناك.
وسط الدرجات المختلفة للون الأخضر الذي يكسي الغابة من كل جانب، لمح ورقة حمراء، وهرع مباشرة إليها ولقد لاحظ عدة أوراق أيضًا حمراء أو في طريقها إلى الإحمرار.


  • "لماذا هي حمراء؟ هل هي مريضة أم سامة أم أن فصل الخريف قد حلّ" تساءل

  • " لا يهم، فلست عالم نبات، ما يهمني هو أنها جميلة"

وما أن نظر إليها بعد أن وضع الاحتمالات على كونها جميلة، لمسها بيده ولم يكن يهتم بحقيقة ما تكون الأسباب.

  • "المرض، القتل، الانحلال، كلها أمور تؤدي إلى أمر واحد وهو الموت، هل الموت جميل لهذا الحد؟"

قد كان هذا هو منطلق الحوار مع الطبيعة وهو الموت، لقد بدأ عقله يسبح في محيط الموت الواسع، ويرى عالم الأموات في كل مكان، لقد كان يرى كل شيء يرمز إلى الموت، ولقد شعر به وأنه يقترب إليه، لقد سبح إلى هذا العالم العميق الذي لا يعلم أحد ماذا يوجد في قاعه، فكل من ذهبوا إلى هناك لم يعودوا ليخبرونا ما الذي وجدوه.
وبدأ يتحدث مع الطبيعة ليكتشف هذا الجزء الهام منها وهو الموت، يسألها فتجيب وفي أحيان كثيرة تعطيه الطبيعة الفرصة ليجيب على نفسه، توقف عند شجرة الخمان، ونظر إلى ثمارها السوداء.



  • "عادةً ما تكون الثمار هنا سامة"

قال بعد أن أشاح النظر عنها ومضى في طريقة.

  • "ولكن لماذا هي سامة؟ هل لتدافع عن نفسها؟ هي محقة في ذلك، لم يسألها أحد هل إذا كان بالإمكان أن يأخذ الثمار التي تعبت من أجلها للحصول عليها، بمنطقنا هذا اغتصاب أو احتلال"

وخلال إكماله السير في وسط الغابة وانغماسه في الحديث مع الطبيعة تذكر أن الحديث مع الطبيعة هي وسيلة ليصل إلى الشيء الذي يبحث عنه والذي إلى تلك اللحظة لم يتوصل إليه بعد، ساورته الشكوك أنه في الحقيقة يتهرب من هذه الفكرة أو الشيء الذي يبحث عنه، وكعادته لقد تاه عقله لولا أن تدخلت الطبيعة وبدأت الحديث معه، فقد شاهد ريش لطائر ليس للطائر فيه أي أثر.


  • "لقد مات طائر من الطيور، وعاش ثدي من الثديات"

قال وهو يقلب الريش المتناثر

  • "الموت هو أصل الحياة"

قال وكأنه توصل إلى استنتاج نهائي، وأكمل طريقه وبدأ يتحدث ولو بدى حديثه غير مرتب.

  • "هل نحن جزء من الطبيعة؟ بكل تأكيد... أتوقع.. لا اعرف، ولكن أتوقع أننا متشابهون، لأن الطبيعة على كل حال لها تأثير علينا، إذا كانت تأثر علينا هل نحن كذلك نؤثر عليها؟ أتوقع هي تأثر علينا، اعتقد إذا ما تحدثنا عن الإنسان بمعية الطبيعة فإنه ضعيف... الطبيعة وجدت قبل الإنسان، وتحملت أكثر من الإنسان، زلازل، أعاصير، براكين، وأشياء أكبر من ذلك بكثير.... الموت والحياة يظهران أكثر على الطبيعة بعكس الإنسان، لكي تستمر الحياة لابد من وجود الموت، وهذا الشيء تلاحظه في الطبيعة وليس الإنسان، الإنسان عاطفي بعكس الطبيعة، الإنسان يكره الموت، يحاول أن يحاربه ولكن في النهاية لن يقضي عليه... أما هل نحن نؤثر على الطبيعة نحن نؤثر على الإنسان وليس الطبيعة، تلوث البيئة؟ الإنسان من سيدفع الثمن وليس الطبيعة، الطبيعة إذا فقدت ملايين الأشجار ستنمو بدلها ملايين أخرى، اعتقد أن الإنسان متكبر حتى يظن أن بإمكانه أن يقضي على الطبيعة..... لا أدري.. هه الموضوع الذي يشغل عقلي.. ألا أريد أن أتحدث عنه؟ لقد تسارعت خطوات أقدامي وكأنني أريد العودة في أسرع وقت ممكن.... أريد أن أكون بمفردي مع الطبيعة وأتجنب أي مظهر يدل على وجود الإنسان... ولو إني إنسان يتحدث بمفرده في الغابة ويحدث نفسه، شعور غريب.... الإنسان كائن غريب في الأصل.. كائن غريب... ليست حكمة، ربما استنتاج... ما يدور في عقلي الآن أفكار غريبة، هل نستطيع أن نخدع أنفسنا؟ ربما بدون أن نشعر..."

عندها التزم الصمت وتوقف عن الحديث مع الطبيعة وتوقفت هي أيضًا عن ذلك، وبدأ يعيد ترتيب ما يسميه بمكتبه عقله، وينظفها، كان يبحث عن شيء وقد كان يظن أنها فكرة، ولكن بعد غربلة ما يسميه مكتبه عقله توصل أخيرًا إلى ما يبحث عنه، لم يكن يبحث عن فكرة أو خيال أو مستقبل، لقد كان في حقيقة الأمر يبحث عن ذكريات، لقد بدأ يقلب هذه الذكريات ويعيدها مرارًا وتكرارًا، فلم يجد فرصة مناسبة لتذكر كل هذا الكم من الذكريات، ولم يكن للحديث مع الطبيعة أي علاقة بهذه الذكريات أو موضوع الموت والحياة، وإنما كان كما شكّ في بداية الأمر أنه يتهرب منها ولم يجد أحد ليخاطبه سوى الطبيعة.





0 التعليقات:

إرسال تعليق